آخر الأخبار

الأحد، 12 أبريل 2015

اعتقاد سفيان بن سعيد الثوري للشيخ الفاضل د.عبد المجيد جمعة الجزائري حفظه الله


اعتقاد سفيان بن سعيد الثوري
للشيخ الفاضل د.عبد المجيد جمعة الجزائري حفظه الله
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فهذه عقيدة شيخ الإسلام، وإمامِ الحفَّاظ، وسيِّد العلماء العاملين في زمانه، أبي عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثَّوري الكُوفِي المجتهد المتوفَّى سنة (126هـ) رحمه الله، أوصى تلميذه شعيب بن حرب أبا صالح المدائِني بأن يلتزمها، ويدين اللهَ بها إلى أن يلقاه، وهي عقيدةٌ مطابقة لما كان عليه أهل السُّنَّة والجماعة.
وقد رواها بإسناده الإمام اللَّالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة» (1 /151 ـ 154 رقم: 314)، وذكر الحافظ الذَّهبيُّ طرفًا منها في «سير أعلام النُّبلاء» (7 /273)، وفي «العلوِّ للعليِّ الغفَّار» (374).
أمَّا إسنادها فـ:
محمَّد بن عبد الرَّحمن بن العبَّاس: هو أبو طاهر المخلِّص الذَّهبي البغدادي، الشَّيخ المحدِّث مُسْنِد وقته، مات في رمضان سنة (393 هـ)، قال الخطيب: «كان ثقة»، انظر «السِّير» (16 /478).
وأبو الفضل شعيب بن محمَّد بن الراجيان: هو شعيب بن محمَّد بن عبيد الله بن خالد الراجيان أبو الفضل الكاتب المتوفَّى في النِّصف الآخر من شهر ربيع الآخر من سنة (326 هـ)، قال الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (9 /246): «كان ثقة».
وعلي بن حرب الطَّائي الموصلي: هو ابن محمَّد ابن عليٍّ أبو الحسن الطَّائي المحدِّث الإخباري صاحب «المسنَد»، مات سنة (365 هـ)، وقد جاوز التِّسعين، قال الحافظ في «التَّقريب»: «صَدوق فاضل»، وانظر ترجمته في «تهذيب الكمال» (20 /361).
وشعيب بن حرب هو الإمام القدوة العابد شيخ الإسلام أبو صالح المدائني، المجاور بمكَّة، من أبناء الخراسانية، قال ابن معين: «ثقة مأمون»، توفي سنة (197 هـ)، انظر «السِّير» (9 /188).
وسفيان الثَّوري هو أشهر من أن يذكر، ومناقبه أكثر من أن تحصر.
وقد اعتمدت على نسخة خطيَّة مصوَّرة من المكتبة الظَّاهرية برقم (3874) [ضمن مجموع (ق 191 ـ 192)]، واعتبرتها الأصل، وقابلتها بالرِّواية المذكورة في «أصول الاعتقاد»، ورمزت لها بحرف: «ك»، وصحَّحت الخطأ، واستدركت السَّقط، وأثبتُّ الزِّيادات، وجعلتها بين معقوفتين [ ]، وعلَّقت على بعض مسائلها بحَسْبِ ضيق المقام، وجهد المقلِّ، والله المستعان.

صورة عن ورقة من المخطوط

النَّصُّ المحقَّق:
[الحمد لله وحده](1).
أخبرنا محمَّد بن عبد الرَّحمن بن العبَّاس، قال: ثنا أبو الفضل شعيب بن محمَّد بن الرَّاجيان، قال: ثَنَا عليّ بن حرب الموصلي ـ بِسُرَّ من رأى سنة سبع وخمسين ومائتين ـ، قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: «قلت لأبي عبد الله سفيان بن سعيد الثَّوري: حدِّثني بحديث من السُّنَّة(2) ينفعني الله [عزَّ وجلَّ](3) به، فإذا(4) وقفت بين يدي الله [تبارك و](5) تعالى، وسألني عنه، فقال لي: [من أين أخذت هذا؟ قلت: يا ربِّ! حدَّثني بهذا الحديث سفيان الثَّوري، وأخذته عنه، فأنجو أنا، وتؤاخذ أنت، فقال](6): يا شعيب! هذا توكيد وأيُّ توكيد! اكتب:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
القرآن كلام الله غير مخلوق، منه(7) بدأ وإليه يعود(8)، من قال(9) غير هذا فهو [كافر(10)](11).
والإيمان قول وعمل ونيَّة، يزيد وينقص، يزيد بالطَّاعة وينقص بالمعصية.
ولا يجوز القول إلَّا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلَّا بالنيَّة، ولا يجوز القول والعمل والنيَّة إلَّا بموافقة [السُّنَّة(12)](13).
قال شعيب: [فقلت](14) له : يا أبا عبد الله! فما(15) موافقة السُّنَّة؟ قال: تقدِّم الشَّيخين أبا(16) بكر وعمر رضي الله عنهما(17).
يا شعيبُ! لا ينفعك ما كتبت حتَّى تقدِّم عثمان(18) وعليًّا على من بعدهما(19).
يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك حتَّى لا تشهد لأحد بجنَّة ولا نارٍ إلَّا للعشرة الَّذين شهد لهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم](20)، وكلّهم من قريش(21).
يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك حتَّى ترى المسح على الخفَّين دون خَلْعِهما أعدل عندك من غسل قدميك(22).
يا شعيب بن حرب! ولا ينفعك ما كتبت [لك](23) حتَّى يكون إخفاء «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم» في الصَّلاة أفضل عندك من أن تجهر(24) بها(25).
يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك(26) حتَّى تؤمن بالقدر خيره وشرِّه، وحُلْوِه ومُرِّه، كلّ من عند الله عزَّ وجلَّ.
يا شعيب بن حرب! والله ما قالت القدرية ما قال الله، ولا ما قالت الملائكة، ولا ما قال(27) النَّبيُّون، ولا ما قال أهل الجنَّة، ولا ما قال أهل النَّار، ولا ما قال أخوهم إبليس ـ لعنه الله ـ، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُون](28)[الجاثية:23]، وقال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله[الإنسان:30]، وقالت الملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم[البقرة:32]، وقال موسى [عليه السَّلام](29)﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء[الأعراف:155]، وقال نوح ـ عليه السَّلام ـ: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون[هود:34]، وقال شعيب ـ عليه السَّلام ـ: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا[الأعراف:89]، وقال أهل الجنّة : ﴿[الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا](30) وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله[الأعراف:43]، وقال أهل النار: ﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّين[المؤمنون:106]، وقال أخوهم إبليس لعنه الله: [﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي[الحِجر:39]](31).
يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت [لك](32) حتَّى ترى الصَّلاة خلف كلِّ برٍّ وفاجر، والجهاد [ماضٍ](33) إلى يوم القيامة، والصَّبر تحت لواء السُّلطان جَارَ أم عَدَلَ.
قال شعيب: فقلت لسفيان: يا أبا عبد الله! الصَّلاة كلّها؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين(34)، صلِّ خلف من أدركت، وأمَّا سائر ذلك فأنت مخيَّر [أن](35) لا تصلِّيَ إلَّا خلف من تثق به، وتعلم أنَّه من أهل السُّنَّة والجماعة.
 يا شعيب بن حرب! إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجلَّ فسألك عن هذا الحديث فقل : [يا ربِّ](36) حدَّثني بهذا الحديث سفيان [بن سعيد](37) الثَّوري، ثمَّ خلِّ بيني وبين ربي عزَّ وجلَّ، [وحسبنا الله ونعم الوكيل.
 يا دهـر مهلًا لقد لـجئت في كنـفـي  اصبر فبعـض الَّـذي قـد حـلَّ بـي يكفي  أحـرمـتـني وطني وأفقـدتـني إلـفي  وسائل الدَّهر عنِّي هل غمض طرفي](38)

_____________________________________ 
(1) ساقطة من «ك».
(2) المقصود بالسُّنَّة هنا: الكلام في العقائد، ولهذا صنَّف كثير من علماء السَّلف كتبًا في بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، وسمُّوا ذلك كتب السُّنَّة، ليميِّزوا بين عقيدة أهل السُّنَّة وعقيدة أهل البدعة، كـ«السُّنَّة» لعبدالله بن أحمد والخلَّال والطَّبراني والأثرم واللَّالكائي وغيرهم، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدَّرداء رضي الله عنهم: «اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة»؛ فالسُّنَّة كالشَّريعة: هي ما سنَّه اللهُ ورسوله صلى الله عليه وسلم وما شرعه، فقد يراد به ما سنَّه وشرعه من الاعتقادات، وقد يراد به ما سنَّه وشرعه من العبادات، وقد يراد به كلاهما.

(3) زيادة من «ك».
(4) في الأصل: «إذا».
(5) زيادة من «ك».
(6) ساقطة من الأصل.
(7) في الأصل: «ومنه».
(8) هذا القول مأثور ثابت عن السَّلف، قال عمرو بن دينار: «أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود» [«أصول الاعتقاد» لللَّالكائي (رقم381)؛ «صريح السُّنَّة» للطَّبري (رقم16)]؛ ومعنى «منه بدأ»: أي هو المتكلِّم به حقيقةً، وهو الَّذى أنزله من لَدُنْه،  ليس هو كما تزعم الجهمية والمعتزلة وغيرهم: أنَّ القرآن لم يبدأ منه، وإنَّما خلق الكلام في محلٍّ فبدأ الكلام من ذلك المحلِّ، وفيه ردٌّ على الأشاعرة أيضًا حيث يقولون: «لم يبدأ منه شيء»، وإنَّما الكلام معنى قائم في نفسه، فلم يسمع جبريل كلامًا، وإنَّما هو الذي أحدث لفظ القرآن، والدَّليل على ما ذهب إليه السَّلف قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ، وأمَّا معنى «إليه يعود»: يعني أنَّه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصُّدور حين لا يعمل بالقرآن، فلا يبقى في الصُّدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف.
(9) في الأصل: «ومن».
(10) وقد انعقد إجماع أهل السُّنَّة على أنَّ من قال: إنَّ القرآن مخلوق فهو كافر.
(11) وكذا في «العلوِّ» (374) للحافظ الذَّهبي، وفي «ك»: «كفر»، وأظنَّه خطأ من المحقِّق؛ لأنَّ النُّسَّاخَ قديمًا كانوا لا يمدُّون الحروف غالبًا.
(12) وإنَّما زاد: «ونيَّة» لأنَّ بعض النَّاس قد لا يفهم دخول النيَّة في ذلك، وهذا ظاهر؛ لأنَّ القول والعمل إذا لم يكن خالصًا لله تعالى لم يقبل، وقوله: «إلَّا بموافقة السُّنَّة» يعني الشَّريعة، وهي ما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّ القول والعمل والنيَّة إذا لم يكن مسنونًا قد شرعه الله تعالى يكون بدعةً، ولهذا فإنَّ الأعمال لا تُقبل إلَّا إذا كانت خالصةً لله، موافقةً لشرعه، وهذا معنى قولهم: لا نعبد إلَّا الله، ولا نعبده إلَّا بما شرع، لا نعبده بالبدع والمحدثات.
(13) زيادة من «ك».
(14) زيادة من «ك».
(15) في «ك» : «وما».
(16) في «ك» : «تقدمة الشَّيخين أبي...».
(17) وهذا متَّفق عليه بين أئمَّة المسلمين المشهورين من الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم، ويدلُّ عليه ما ثبت عن ابن عمر ب قال: «كنَّا نخيَّر بين النَّاس في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فنخيّر أبا بكر ثمَّ عمر بن الخطَّاب ثمَّ عثمان بن عفَّان رضي الله عنهم»، رواه البخاري (3455)، بل ثبت عن محمَّد ابن الحنفية أنَّه قال: «قلت لأبي: أيُّ النَّاس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثمَّ مَنْ؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثمَّ أنت، قال: ما أنا إلَّا رجل من المسلمين»، رواه البخاري (3468)، بل يروى هذا عن عليّ من ثمانين وجهًا.
(18) في «ك»: عثمانًا، وهو خطأ، لأنَّه ممنوع من الصَّرف.
(19) فيه إشارةٌ إلى أنَّ سفيان الثَّوري ـ رحمه الله ـ كان يتوقَّف في المفاضلة بين عثمان وعلي، وروي عنه أيضًا أنَّه رجَّح عليًّا على عثمان، ثمَّ رجع عن ذلك لما اجتمع به أيُّوب السِّختياني، وقال: من قدَّم عليًّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا مذهب سائر الأئمَّة وجماهير أهل الحديث، بل هو إجماع منهم على ذلك، «انظر منهاج السنَّة» (2 /38)، «مجموع الفتاوى» (4 /421 وما بعدها).
(20) ساقطة من «ك».
(21) ويدلُّ عليه ما رواه عبد الرَّحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي الجَنَّةِ»، أخرجه التِّرمذي (3680)، وأحمد (1585)، وقال الألباني ـ رحمه الله ـ في «صحيح الجامع» (50): «صحيح».
(22) هذه المسألة فقهيَّة، وإنَّما ذكرت في العقيدة؛ لأنَّ طوائف من أهل الأهواء والبدع من الخوارج والرَّوافض أنكروا المسح على الخفَّين، وزعموا أنَّ ذلك خلاف كتاب الله، ولهذا نصَّ عليه أهلُ السُّنَّة في عقائدهم، وقد ثبت ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا بلغت حدَّ التَّواتر، وقد فعله بعده الصَّحابة، وأجمعت عليه الأمَّة، فلا يعتدُّ بمخالفة المبتدعة في ذلك، قال في «الطَّحاوية»: «ونرى المسح على الخفَّين في السَّفر والحَضَرِ، كما جاء في الأثر».
(23) ساقطة من «ك».
(24) هذه أيضًا من المسائل الفقهيَّة، وقد اختلف فيها السَّلف، وأفردها بعضهم بالتَّصنيف، كالإمام الهَرَوِي والخطيبِ البغداديِّ وأبي طاهر البَزَّارِ البغدادي وغيرهم.
(25) في «ك»: «بهما».
(26) في «ك»: «الذي كتبت».
(27) في «ك»: «قالت».
(28) زيادة من «ك».
(29) زيادة من «ك».
(30) زيادة من «ك».
(31) زيادة من «ك».
(32) ساقطة من «ك».
(33) زيادة من «ك».
(34) في الأصل: «العيدين خلف من أدركت»، ولعلَّه تَكْرَارٌ، أو سَبْقُ نَظَرٍ.
(35) ساقطة من «ك».
(36) زيادة من «ك».
(37) زيادة من «ك».
(38) ساقطة من «ك».

* منقول من مجلة الإصلاح «العدد -3-»
اقرأ المزيد ...

رد الشيخ ربيع المدخلي على شبهات المجوّزين للأناشيد البدعيّة


رد الشيخ ربيع المدخلي على شبهات المجوّزين للأناشيد البدعيّة


س : يحتج بعضهم على جواز الأناشيد الإسلامية بحديث الذي فيه إستماع الرسول صلى الله عليه وسلم لأناشيد الأحباش و ضرب الدفوف عندهم و أيضًا بحداء أنجشة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره و غزواته و ما هو التفريق بين الأناشيد و الحِداء ؟


ج : هذا فعل أهل الأهواء و البدع يتتبعون المتشابهات كما وصفهم الله تبارك و تعالى هذه طريقة الصوفية ما من ذكر عندهم إلا و له أصل و لكن كيف يطبقونه ؟ يخالفون الرسول في التطبيق الرسول حث على الذكر و التسبيح أعقاب الصلاة حث على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن حثّ على الذكر لكن جاءوا بأذكار كلها بدعية تخالف و إن كان أصلها و الحث عليها في القرآن و السنة لكن الشكل و الصورة و الكيفية تختلف عن الشكل و الكيفية و الصورة التي أمر الرسول بأدائها فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتسبيح و التحميد و التهليل الكيفية كيف ؟ كل واحد يسبح الله منفردًا هم يطبقونه بصورة جماعية فحكموا عليهم بأنهم مبتدعة . حتى الصلاة على الرسول يطبقونها بصورة جماعية و يخترعون لها الموالد و يقولون الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم و الصلاة عليه . فطريقة الأداء و الشكل و الصورة تختلف عما كان في عهد الرسول و أصحابه رضوان الله عليهم . الأمثلة كثيرة من أمثلة تطبيقات أهل الضلال التي يحكم عليها علماء السنة بأنها بدع . حثنا الرسول صلى الله عليه و سلم على الصلاة و هم يصلون صلاة الرغائب في ليلة معينة بطريقة معينة يقرؤون فيها : ' قل هو الله أحد ' لا أعرف كم مرة ... إلى آخره قال العلماء لهم : هذه من أخبث البدع كيف ؟ صلاة و قراءة قرآن و ذكر و يقولون : بدع الأناشيد الآن أولى بأن تكون بدعًا الرسول صلى الله عليه وسلم رأى أناسا يتدربون على الجهاد بالأسلحة أليس الأحباش كانوا يتدربون بالأسلحة ؟ يتدربون عليها (1) ليس مثل الآن ترى شبابا حالقين لحاهم لابسين لباسا يشبه لباس النساء و يأتي و يتغنى و يتمايل كالمرأة العاهرة و يغني بصوت سمج ثم يحتجون على هذا العمل السيء بما ذكرتم و شتان شتان بين ما فعله الأحباش و أقره الرسول صلى الله عليه وسلم و بين هذه الأعمال البدعية .
حسّان متى أنشد ؟ عند الحاجة كان يُنشد متى كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و سلم يأتون بالرجز ؟ و يرتجزون بالشعر ؟ عند الحاجة يعني أتوا بهذا الرجز في حفر الخندق (2) و في بناء المسجد النبوي (3) و بناء المسجد كان في السنة الأولى و حفر الخندق كان في السنة الرابعة بعد أربع سنوات إحتاجوا ليس كل يوم أناشيد في الصباح و المساء في السفر هذا أخبث من تطبيق الصوفية . و كان عمر يعترض على حسان إذا أنشد و إعترض على سلمة بن الأكوع في خيبر لما طلب منه الرسول أن يأتي بشيء من الرجز قال عمر : '' يا سلمة إعلم ما تقول '' (4) تحذيرًا له كم بين الخندق و خيبر ؟ كم سنة ؟ ثلاث سنوات أو أربع سنوات خيبر في السنة السابعة و في غزوة الفتح و في حنين و في كثير من الغزوات ما كان أحد ينشد الأشعار فهذه أمور في حالات نادرة بأسلوب الرجولة المعين على طاعة الله . أما هؤلاء على طريقة الكفار على طريقة اليهود و النصارى و الروافض و الباطنيّة في إتخاذ الأناشيد دينًا و أصلاً من الأصول . هؤلاء أهل ضلال فدعوتهم الآن لا تنتشر إلا بالأناشيد و التمثيليّات و الكلام الفارغ هذا ضلال . الدعوة السلفيّة قائمة على ' قال الله ' و ' قال رسول الله ' يقولون : مساكين يرون أن' قال الله' ' قال رسول الله' ما يكفي و يهتمون بالأناشيد و التمثيليّات أكثر ما يهتمون بقال الله و قال رسول الله و بالحق .و الواقع أن لهم مُخالفات كثيرة عقدية و منهجية و سياسيّة مخالفات للمنهج الحق الذي كان عليه رسول الله و أصحابه و من إتبعهم بإحسان . و فاقد الشيء لا يعطيه فهم ما عندهم إلا هذه البلايا و قد تشعبوا بها و يجرعون هذه السموم للشباب المساكين و الله إنهم ليفسدون بها بلادًا صالحة قائمة على التوحيد و على السنة من أجل نشر التمثيليات و الأناشيد و غيرها فيتسلطون بهذه الألاعيب و هذه البدع و الضلالات لإفساد شباب المنهج السلفي لذلك ترى لها آثار سيّئة . فأهل البدع يلبّسون المعتزلة الروافض الخوارج و غيرهم يتعلقون بنصوص من القرآن و صحيح السنة و لكن يكذبون فيها و يتأوّلونها على غير تأويلها .


نسأل الله أن يجنّبنا البدع و الفتن و أن يثبتنا على الحق و الهُدى
كتاب عون الباري ببيان ما تضمنه شرح السنة للإمام البربهاري للشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله ص777-780

-------------------------------
(1) رواه البخاري في صحيحه رقم 5190 مسلم في صحيحه رقم 892
(2) رواه البخاري في صحيحه رقم 4106 و مسلم في صحيحه رقم 1803
(3) رواه البخاري في صحيحه رقم 3932 و مسلم في صحيحه رقم 524
(4) رواه مسلم في صحيحه رقم 1803 من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه
منقول
اقرأ المزيد ...

النسب العلمي

النسب العلمي

جمادى الآخرة 1436 - مارس 2015

الشيخ توفيق عمروني حفظه الله


إنَّ منَ الأسباب الَّتي بها تنهضُ الحركةُ العلميَّةُ وتتلاحقُ عبر الأجيال والحقب الزَّمنيَّةِ المتعاقبةِ، هو التَّواصل الموجود بينَ أهل العلم مِن عُلماء وطُلاَّبِ علم، فكانت الرِّحلةُ في الطَّلب دأبَهم وديدنَهم وطريقًا من طُرق التَّعارف والتَّواصل، وللإبقَاءِ على هذه السِّلسلة متَرابطة الحلقَات والعُرى لا يفصمُها فاصمٌ ولا يقطعُها قاطعٌ؛ شُرِعَت الرِّحلةُ في طلب العلم زَمَنَ الأنبياءِ والرُّسلِ.

فقد حكى القرآنُ الكريمُ رحلةَ كليمِ الله موسى عليه السلام إلى الخَضِر عليه السلام لملاقاتِه وأخذِ العلم عنه؛ كما أُثِرَ عن كثيرٍ من السَّلف رضي الله عنهم أخبارُ رَحلاتِهم في الطَّلب ولقاءِ المشايخ والأكابرِ بدءًا بالصَّحابة رضي الله عنهم؛ كخَبر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما المشهور في رحلتِه مسيرةَ شهرٍ إلى الشَّام لسماع حديث واحدٍ بلغه عن أحدهم يرويه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وقد تتابعَ العلماءُ على المضي في هذه السُّنَّةِ الحميدةِ والسِّيرةِ الرَّشيدة، إلاَّ أنَّ علماءَ الحديث أخذوا بالنَّصيب الأوفرِ وحازوا قصبَ السَّبق في ميدان الرِّحلة في طلب الحديث، فكانَ شرفُ المحدِّث يزيد سموًّا كلَّما كانَت رحلتُه أَطْوَلَ وأسفارُهُ أَبْعَدَ، ولقاءاتُه بالمشايخ والأعلام أَكْثَرَ، حتَّى عُدَّ لبعضهم ثلاثةُ آلافِ شيخٍ كالحافظ ابن النَّجار البغدَادي، ودامَت رحلتُه سبعًا وعشرين سنةً، ومنهُم مَن أخذَت رحلتُه خمسًا وأربعين سنةً مِن عُمره كالإمام أبي عبدِ الله بن مندَه، يُفارقون فيها الأوطانَ، ويتركونَ الأهلَ والوِلدَان، مع ما يُلاقيه هؤلاء الرَّحَّالون في أسفَارهم مِن مشاقَّ ومتَاعب وشدَائد، بعضُها دوِّن وحفظته كتبُ التَّاريخ، وبعضُها مضَى دون ذكر ولا تَدوين، ولا يعود أحدُهم إلى موطنه حتَّى يقضي وطرَه، ويُشبع نهمَتَه، فيرجع وهو يحمِلُ علمًا وأدبًا جمًّا، وهذا لإدراكهم حقيقةً مهمَّةً وهي أنَّ مُلاقاةَ العُلماء هو السَّبيلُ الأمثل لأخذِ العلم؛ ولهذا قالوا: «إنَّ العلمَ كانَ في صُدور الرِّجال، ثمَّ انتقَل إلى الكُتب، وصارَت مفاتحُه بأيدي الرِّجال»(1).

وقَد عقَد ابنُ خلدُون في «تاريخه» بابًا ترجَم له بقَوله: «في أنَّ الرِّحلةَ في طَلب العُلوم ولقَاءِ المشيَخَة مزيدُ كمالٍ في التَّعلُّم»؛ ثمَّ قال: «والسَّبَب في ذلكَ أنَّ البشر يأخذُون معارفَهُم وأخلاقَهُم، وما ينتَحلون به منَ المذَاهب والفضَائل، تارةً علمًا وتعليمًا وإلقَاءً، وتارةً محاكاةً وتلقينًا بالمُباشَرة.

إلاَّ أنَّ حصولَ الملَكَات عن المباشَرة والتَّلقين أشَدُّ استحكَامًا وأقوَى رسُوخًا، فعَلى قَدْر كثرَةِ الشُّيوخ يكونُ حصولُ المَلَكات ورسُوخُها».

فمِن أَعْظَمِ فوائدِ الرِّحلة في الطَّلب هي حصولُ اللِّقاء المُباشر معَ العَالم واكتِحال العَين برُؤيته، فيُطالعُ الطَّالبُ في شيخِه النَّموذجَ الصَّادقَ الَّذي يُتَرجمُ العلمَ الَّذي يحويه صدرُه إلى أعمالٍ وأقوالٍ وآدابٍ وتصرُّفاتٍ، فيشاهد صورًا من العبادة والزُّهد والأخلاق، وأشكالا منَ الهَدي والسَّمت والدَّلِّ؛ تنطَبع في النَّفس، ويكون لها أعظمُ الأثر في مسيرة الطَّالب العلميَّة والعمليَّة، ذلكَ لأنَّ العلمَ النَّافع يدعو إلى العَمل الصَّالح، ولا يكونُ نافعًا إلاَّ إذَا ظهَرت آثارُه على صاحبه، فيجدُ الطَّالبُ ضالَّتَه الفكريَّةَ والعقليَّةَ والرُّوحيَّةَ والأدبيَّةَ بهذه المباشرَة، ويستَفيد تـنمية ملكتِه العلميَّة ورسوخَها كمَا أشار إلى ذلكَ ابنُ خلدون؛ ورَووا أنَّه «كانَ يجتَمعُ في مجلس أحمَد زُهَاء خمسة آلاف أو يزيدون نحو خمسمائة يكتُبون، والباقُون يتَعلَّمون منهُ حُسن الأدَب والسَّمت»(2).

وأمرٌ آخرُ وهو أن يصلَ الطَّالبُ نفسَه بسلسلة العلم المبارَكَة الَّتي تنتَهي به إلى مبلِّغ الوحي نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فتشعُر نفسُه بالانتماءِ إلى حظيرة العلم وأهلِه، فتزكو أخلاقُه، وتَحسُنُ آدابُه، ويجمُل هديُه؛ وهذا ما يُحرمُ منه المتَّصلُ بالعلم بحبلٍ غير متين؛ إمَّا عن طريق الكتاب وحدَه، أو عن طريق الوسائل الحديثة كالمواقع والمنتديات الإلكترونيَّة في الشَّبكة العنكبوتيَّة، ونحوها، فهذه طرقٌ تُوصلُ إلى كثير منَ المعرفَة، لكنَّ التَّتلمذَ عليها وتنصيبَها في محلِّ الشَّيخ المعلِّم، والاقتصارَ عليها وحدَها، هو ضربٌ مِن ضُروب الخَلل الَّذي يُصدِّع شخصيَّةَ الطَّالب، ويهزُّ فكرَه، ويُهدر عليه وقتَه، ويجعَلُ منه متعلِّمًا هزيلاً، لا يحقِّق مقصدًا، ولا يبلغ مأربًا، ولا ينشَأُ منه عالمًا محرِّرًا، ذلك لأنَّ هذا العلم روحٌ به تتمُّ الحياةُ، فلا تنقله الآلةُ إلى الرُّوح، وإنَّما ينتقل منَ الرُّوح إلى الرُّوح، لتكمُل به النَّفسُ، فيتلقَّى العلمَ مِن أفواه المشايخ حِسًّا ومشاهدةً ومزاحمةً بالرُّكب بينَ أيديهم، فيكون قَد أخذَ العلمَ بأطرافه، فيعرف الشَّيخَ، ويعرفه الشَّيخُ ويتمُّ بينَهما التَّناسُب؛ فليس مَنْ أخذ العلمَ عن الإنسان الحيِّ النَّاطقِ كمَن أخذه عن الجمَاد ولو كان ناطقًا.

أمَّا من لم يُعِرْ هذا الأصلَ العظيمَ اهتمامًا، فقَد نادى على نفسِه بالخيبة والهوان، وسيُحيط به النَّدمُ عند فَوات الأوان؛ وقد قالوا قديمًا: «مَن دخَل في العلم وحدَه؛ خرجَ وحده»؛ قال الشَّيخ بكر أبو زيد :: «أي: مَن دخل في طلب العلم بلا شيخ؛ خرجَ منهُ بلا علمٍ؛ إذ العلمُ صَنْعَةٌ، وكلُّ صنعَةٍ تحتَاج إلى صانع، فَلا بدَّ إذًا لتَعلُّمها مِن معلِّمها الحاذق»(3).

وعندما يبلغ الرُّشدَ يجد نفسَه موتورَ النَّسب العلميِّ، ويُعاب على عرائه من المشيخَة، ولهذا لمَّا كتب أحمدُ ابنُ نصر الدَّاودي المسيلي (402 هـ) مُنكِرًا على معاصريه من علماء القيروان سُكناهم في مملكَة بني عُبَيْد، وبقاءَهم بين أظهرهم؛ كان جوابُهم عليه أن قالوا له: «اسكُت لا شيخَ لك»؛ لأنَّه لم يَتفقَّهْ في أَكْثَرِ علمِه عند إمَامٍ مشهورٍ، وإنَّما وصَل إلى ما وصل بإدراكه، ويُشيرون أنَّه لو كانَ له شيخٌ يفقِّهه حقيقةَ الفقه، لعَلم أنَّ بقاءَهُم مع مَن هناكَ مِن عامَّة المسلمين تثبيتٌ لهم على الإسلام، وبقيَّةٌ صالحَةٌ للإيمَان، وأنَّه لو خرجَ العُلماء من إفريقيَّة لتشرَّق(4) مَن بقيَ فيها منَ العامَّة الألف والآلاف، فرجَّحُوا خيرَ الشَّرَّيْن(5).

وفي كتاب «الصِّلة» لابن بشكوال (1 /250) عن صالح ابن الإمام أحمد رحمه الله قال: «لقَد التفَت المعتَصمُ إلى أبي فقَال له: كلِّم ابنَ دُؤاد؛ فأعرَضَ عنهُ أبي بوجهه، وقَال: كيفَ أكَلِّمُ مَن لم أرَه على باب عالمٍ قَطُّ».

فهذا هو المَهيعُ السَّائد والمنهجُ المعهود عند أهل العلم المتقدِّمين منهم والمتأخِّرين، فلم يكونوا يتصوَّرون طالبَ علم عديمَ الصِّلة بالمشايخ والعلماء، أو فاقدَ العلاقة بالأساتذة والمعلِّمين، بل منَ الوصف اللاَّزم للطَّالب اشتهارُه بطَرْق أبوابهم للزِّيارة والاستفادَة، والجلوس بينَ أيديهم للتَّعلُّمِ والاستزادةِ، ورعايةُ حُرمتِهم في الغيب والشَّهادة، والتَّلطُّف عند مخاطبتهم، وحُسن الاستماع منهم، مع الأخذ بمجامع الأدب بحضرتهم وفي مجالسهم؛ فإنَّ العلمَ رحمٌ بينَ أهله، ولا بدَّ مِن وصلِ هذه الرَّحم، ودَفْعِ أسبابِ قطعها، وبقَدر هذَا الوصل يكون الفلاحُ والنَّجاحُ، وبقَدْر ترك هذا الوِصال يكونُ الفشلُ والإخفَاق.

فعلى طالب العلم النَّبيه أن يكون على صلةٍ وثيقةٍ بأهل العلم، لينتَظمَ في سِلكهم ويَلحقَ برَبْعِهم، وليَرفع الجهلَ والجهالةَ عن نفسه، فبالعلم يزولُ الجهلُ عنه، وبقُربه من أهل العلم ترتَفع جهالةُ عينِه وحالِه، فيَشتَهر عندَهُم بالطَّلب وتثبُت عدالتُه واستقامتُه؛ فممَّا كانَ مقرَّرًا عند المحدِّثين قديمًا أنَّهم لا يقبلُون حديثَ الرَّاوي حتَّى تُعلَم عينُه بأن يرويَ عنه على الأقلِّ اثنان من الرُّواة الثِّقات المشهورين، وتَنكشفَ حالُه من حيثُ العدالةُ والتَّجريحُ؛ لهذا كانَ من المستَهجن القَبيح أن ينصِّبَ الرَّجلُ نفسَه معلِّمًا، وهو مجهول النَّسب العلمي، ولا يَعرفُ عنه أهلُ العلم من أهل بلده القريبين منه ـ فضلاً عن غيرهم ـ شيئًا، لا عينَه وصورتَه، ولا حالَه وعدالتَه.

وبهذا الأسلوب السَّلفي الوجيه يُقطَع الطَّريقُ على المتطفِّلين على أهل العلم، والمنتَسبين إليهم بغير حقٍّ، ممَّن امتلأت بهم الدُّنيا هذه الأيَّام سواءً في عالَم الحقيقَة أو في عالَم الافتراض (عالم الأنترنت)، وصاروا يشَكِّلون عقبةً كؤودًا، يحولون بين النَّاس وبينَ العلماء، ويصرفون وجوهَ العامَّة إلى أنصاف العلماء، ويثيرون فتنًا هوجَاء، ويُشيعُون فهومًا عوجَاء، ويُصدرون أحكامًا وفتاوى عرجاء، والَّذي غرَّهم سهولةُ الوصُول إلى وسَائل العلم، ويُسر تناولها كوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة، والشَّبكَة العَنكبوتيَّة ونحوها، فهذه الوسائل كثيراً ما تصنِّف أشخاصًا تحت مسمَّى عالم، ومفتٍ، وداعية، وباحث شرعي ونحوها من المسمَّيات، وهو غير مؤهَّل لشيء من ذلك؛ لهذا انتبه سلفنا قديمًا إلى أنَّ الكتابَ ـ مع كونِه وسيلةً خالصةً للنَّفعِ ـ غيرَ أنَّه قد يُسبِّبُ هذا التَّطفُّلَ، قال الأوزاعي رحمه الله: «كانَ هذا العلمُ كريمًا يتَلاقاه الرِّجالُ بينَهم، فلَمَّا دخَل في الكُتب، دخَل فيه غيرُ أهلِه»(6)، فكيف اليوم بهذه الوسائل الَّتي ليست متمحِّضةً للنَّفع والخير، بل هي صارفةٌ عن كثير من الحقائق، وملهيةٌ عن كثير من الدَّقائق، وتجمع إلى جنب الخير الَّذي فيها كثيرًا منَ الشُّرور والآفات، فإنَّها تُخرِجُ الصَّغير في صورة الكبير، وتصوِّر الحقير في هيئة العظيم، والنَّاقص في صورة الكامل.

فالشَّأن الَّذي ينبغي أن يُعلَمَ أنَّ مُستَودعَ العلم صُدورُ الرِّجال، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾[العنكبوت:49]، لهذا عندما يحينُ وقت رفع العلم منَ الأرض، فإنَّ رفعَه لا يكون بإتلاف هذه الوسائل وإزالتها، بل بقَبض حمَلَة العلم وهُم العلماء، كما جاء في الحديث الصَّحيح: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، ولَكِنْ يَقْبضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاء»(7).

فإذا كنَّا نرومُ أن ترسُو سفينتُنا على شاطئ الأمان، ونسلمَ من الفتن وأسباب الهوان؛ فعلينا أن نعود بالعمليَّة التَّعليميَّة إلى سكَّتها الَّتي عهدها أهلُ العلم وتوارثها الخلف عن السَّلف وألِفُوها جيلا بعد جيل، وهو تسلُّم العلم من أفواه العُلماء والمشايخ، وأن نُبقي هذه السُّنَّة الحميدَة، والطَّريقة السَّلفيَّة الرَّشيدة، حفاظًا على شريعتنا الغرَّاء، وصيانةً لجناب سنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم المحجَّة البيضاء من كلِّ سوء وفتنة عمياء.

--------------------

(1) «الموافقات» (1 /140).
(2) «السِّير» (11 /316)؛ وفيه أيضًا: أنَّ أبا بكر ابن المُطوِّعي كان يقول: اختلفَت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ «المسند» على أولاده، فما كتبت عنه حديثا واحدا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه.
(3) «حلية طالب العلم» (ص 159).
(4) أي صار على عقيدة المشارقة، ويومها كانت عقيدةَ العُبَيْديِّين الباطنيِّين.
(5) «ترتيب المدارك» (7 /103)، وقال الشاطبي: «وبهذَا الوجه وقَع التَّشنيع على ابن حزم الظَّاهري، وأنَّه لم يُلازم الأخذَ عن الشُّيوخ، ولا تأدَّب بآدابهم، وبضدِّ ذلكَ كانَ العُلماءُ الرَّاسخون كالأئمَّة الأربعَة وأشباههم» [«الموافقات» (1 /144)]
(6) «تاريخ ابن عساكر» (35 /188).
(7) البخاري (100)، ومسلم (2673).



منقول

http://www.rayatalislah.com/index.ph...03-22-13-26-30


اقرأ المزيد ...

كيف يحكى الخلاف في المسألة، هل يبدأ بالقول المرجوح أم بالقول الراجح؟ يجيبك شيخ الإسلام ابن تيمية

كيف يحكى الخلاف في المسألة، هل يبدأ بالقول المرجوح أم بالقول الراجح؟ يجيبك شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره كما في "مجموع الفتاوى" 367/13: قَالَ تَعَالَى : ((سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)) .
فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا .
فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا :((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ : ((فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) أَيْ لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ .
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ : أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُفَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْأَهَمِّ فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ" .


اقرأ المزيد ...
تعريب وتطوير ( كن مدون ) Designed By